سورة الأحزاب - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روى عن مجاهد. وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل: بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمى حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصر وكشافه أيضًا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرًا، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله تعالى بعد: {أَشِحَّةً عَلَى الخير} ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى.
قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينًا وإلا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و{أَشِحَّةً} جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولأمه أن يجمع على افعلاء كضنين وإضناء وخليل وإخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضًا، ونصبه عند الزجاج. وأبي البقاء على الحال من فاعل {يَأْتُونَ} على معنى تركوا الاتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أو من ضمير يعوقون مضمرًا، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من {المعوقين} أو من القائلين، وردًا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالًا من {المعوقين} لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَشِحَّةً} بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة {فَإِذَا جَاء الخوف} من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
{كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفة لمصدر {يُنظَرُونَ} أو حال من فاعله أو لمصدر {تَدورُ} أو حال من {أَعْيُنَهُمْ} أي ينظرون نظرًا كائنًا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرًا وخوفًا ولو إذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانًا كائنًا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي الخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي أذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بهامنا، وقال يزيد بن رومان: بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين.
وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدًا أو لسانًا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازًا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق عنى الضرب تخييلًا، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجدة *** فيهم والخاطب المسلاق
وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغًا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق» قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: أن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم أن المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبي عبلة {صلقوكم} بالصاد.
{حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخير} أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روى عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذين ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب {أَشِحَّةً} على الحال من فاعل {سَلَقُوكُم} أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة {أَشِحَّةً} بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم {أَشِحَّةً} والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مر بأن ما هنا مقيد بالخير المراد به مال الغنيمة وما مر مقيد عاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالانفاق في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الحالة الأولى واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم الخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك.
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقًا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول {أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفات السوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الايمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروط بالايمان وبالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوزأن يكون المراد بها ما عملوه نفاقًا وتصنعًا وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عز وجل صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعًا لمنفعة دنيوية أصلًا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روى عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: {لَمْ يُؤْمِنُواْ} فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.
{وَكَانَ ذلك} أي الاحباط {عَلَى الله يَسِيرًا} أي هينًا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضًا عليه، وقيل: أي هينًا سهلًا عليه عز وجل، وتخيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالاحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عز وجل هينًا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببًا لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف.


{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}
{يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم الله تعالى الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنه لم يرحلوا، وقيل: المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك، وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] لدلالته ظاهرًا على أنهم خارجون عن معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثون إخوانهم على اللحاق بهم، وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر، وكذا من قوله سبحانه: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} على ما هو الظاهر أيضًا إذ يبعد حمله على اتحاد المكان ولو في الخندق {وَإِن يَأْتِ الاحزاب} كرة ثانية {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب} تمنوا أنهم خارجون إلى البد وحاصلون مع الأعراب وهم أهل العمود، وقرأ عبد الله. وابن عباس. وابن يعمر. وطلحة {بدي} جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقيام فعلة كقاض وقضاة؛ وفي رواية أخرى عن ابن عباس {بدوا} فعلًا ماضيًا، وفي رواية صاحب الإقليد {بدي} بوزن عدي {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} أي كل قادم من جانب المدينة {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقًا وجبنًا، واختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال، والجملة في موضع الحال من فاعل بادون، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو. وعاصمًا. والأعمش {قرؤا} يسلون بغير همز نحو قوله تعالى: {الامور سَلْ بَنِى إسراءيل} [البقرة: 211] ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوامح عن الحسن. والأعمش، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وقتادة. والجحدري. والحسن. ويعقوب بخلاف عنهما {يساءلون} بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضًا أي قول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بغلك؟ أو يتساءلون الإعراب أي يسألونهم كما تقول: رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدًا وتباصرته {أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى: {وَإِن يَأْتِ الاحزاب أَوْ لَّوْ كَانُواْ فيكُمْ} في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داخل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلًا} رياء وسمعة وخوفًا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي: هو قليل من حيث هو رياء ولو كان الله تعالى كان كثيرًا.


{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى: {عَنْ أَنبَائِكُمْ} وقوله سبحانه: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ}.
والأسوة بكسر الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة، وقال الراغب: الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي اسم كان و{لَكُمْ} الخبر و{فِى رَسُولِ الله} متعلق بما تعلق به {لَكُمْ} أو في موضع من {أُسْوَةٌ} لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتًا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف، وجوز أن يكون في رسول الله الخبر ولكن تبيين أي أعني لكم أي والله لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد؛ ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة عنى المقتدى على معنى هو صلى الله عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به، وفي الكلام صنعة التجريد وهو أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف نحو لقيت منه أسدًا وهو كما يكون عنى من يكون عنى في كقوله:
أراقت بنو مروان ظلمًا دماءنا *** وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وكقوله: في البيضة عشرون منا حديد أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد، والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة؛ أخرج ابن ماجه. وابن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال: قلت لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال يا ابن أخي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال: هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن ينهى عن الحبرة فقال رجل: أليس قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر: بلى قال الرجل: ألم يقل الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فترك ذلك عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الشيخان. والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم عن ابن عمر أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة ثم قرأ {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وأخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إلى غير ذلك من الاخبار، وتمام الكلام في كتب الأصول.
{لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر} أي يؤمل الله تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعليه يكون قد وضع {اليوم الاخر} عنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق اسم المحل على الحال، والكلام نحو قولك: أرجو زيدًا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك: أرجو زيدًا كرمه على البدلية: وقال «صاحب الفرائد»، يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة الله أو رضا الله وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضا فإن مقدران، وعن مقاتل أي يخشى الله تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه، والرجاء عليه عنى الخوف، ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات، وقدر بعضهم المضاف إلى الاسم الجليل لفظ أيام مرادًا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث واشتهر في هذا حتى صار نزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العف من عطف الخاص على العام، والظاهر أن الرجاء على هذا عنى الخوف، وجوز أن يكون الكلام عليه كقوله: أرجو زيدًا وكرمه. وأن يكون الرجاء فيه عنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب، وأن يكون عنى الخوف والأمل معًا بناء على جواز استعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر، وعندي أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم، وفسر بعضهم {اليوم الاخر} بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و{مِنْ} على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في {لَكُمْ} وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي، وإبدال الاسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين. والأخفش، ويدل عليه قوله:
بكم قريش كفينا كل معضلة *** وام نهج الهدى من كان ضليلًا
ومنع ذلك جمهور البصريين: ومن هنا قال صاحب التقريب، هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل، ولا يتسنى إلا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت، ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون لمن متعلقًا بحسنة أو حذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة، وقيل: يجوز أن يكون صفة لأسوة.
وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه، وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح، وقد صرح نع ذلك الإمام الواحدي، ولا يخفى أن المسألة خلافية فلا تغفل.
{وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} أي ذكرًا كثيرًا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عز وجل تؤدى إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي إن ذكر الله تعالى المعتبر شرعًا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ونحو ذلك وما لا يكون فرد لا يعد شرعًا ذكرًا نحو الله أو قادر أو سميع أو بصير إذا لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلامًا، والناس عن هذا غافلون، وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتبعد عناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان الله ولا إله إلا الله إذا كان غافلًا عن المعنى غير ملاحظ له ومستحضرًا إياه لا يثاب إجماعًا، والناس أيضًا عن هذا غافلون فإنا لله وإنا إليه راجعون.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10